من أفضل التجارب التي أبهرت العالم هي تجربة هذه الجزيرة الصغيرة في المساحة والضئيلة في الموارد والثروات والمليئة بالأطياف والأجناس المتنوعة في الأفكار والأيدلوجيات، وهي التي تضم مزيجًا سكانيًّا متنوعًا من الدول المجاورة لها مثل الصين وماليزيا والهند وبعض الأقليات الآسيوية والأوربية التي رحلت إليها واستوطنتها منذ فترات بعيدة، فقد كانت سنغافورة إحدى المستعمرات الخاضعة لبريطانيا حتى عام 1960 حيث كانت سنغافورة أحد موانئ الإمبراطورية البريطانية وذلك يأتي ضمن التوسع الأوروبي في آسيا من أجل الأسواق والموارد الطبيعية، وفي عام 1965 انفصلت عن ماليزيا حيث إنها كانت مجرد محطة تجارية إقليمية وكانت الأغلبية العظمى من السكان بدون تعليم أساسي.
بعد الاستقلال كانت البلاد على موعد مع "لي كوان يو" الملهم وقائد التغيير والأب الروحي لسنغافورة وهو أول رئيس وزراء للبلاد، والذي ساهم في وصولها إلى أعلى المراكز العالمية المالية والتجارية، فعمل على إيجاد رؤية تنموية اقتصادية تنتشل بلده المتأخر والمتناحر مع الآخرين إلى طريق التنمية والتطوير في كل جهات ومناحي الحياة، وهذا ما ساعد سنغافورة في القفز السريع والانتقال الخارق من دولة مغمورة مطمورة من دول العالم الثالث إلى مصاف الدول الحديثة ذات المكانة المرموقة محليًّا وعالميًّا، فتطور الاقتصاد بسرعة ملحوظة حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أعلى المعدلات العالمية بل وأسرع من بعض الدول العظمى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
ولعلنا نتساءل عن السبب الحقيقي لارتقاء هذه الدول الصغيرة إلى ما هي عليه الآن، ويأتي الجواب لما يدور من تساؤلات وهو أن هذه الدول - ومنها سنغافورة التي يدور الحديث حولها – استغلت العامل البشري أفضل استغلال مستفيدة من تجارب الدول الكبرى التي تحترم الإنسان وتوليه التقدير والتدريب والاعتزاز بمواهبه وإمكانياته حتى إن كانت بسيطة وصغيرة، فاهتمت الدولة بالتعليم والذي كان السبب الجوهري الحقيقي للانتقال إلى العالم الأول والمنافسة الاقتصادية العالمية، فنهجت الدولة نهجًا يستحق الاحترام كان عنوانه مبادرة "مدرسة تفكر ... وطن يتعلم"، مبتعدة بذلك عن التلقين المعتمد على قدرات الحفظ إلى تعليم طلبة المدارس والجامعات مهارات التفكير الناقد والتوجه نحو التعلم والتقصي الذاتي للأحداث والمعلومات للوقوف على صحتها وماهيتها بصورة علمية، والقيام بتوظيف تكنولوجيا التعلم والاستفادة منها بقدر المستطاع في مختلف أوجه العملية التعليمية؛ حتى يتم التعلم في بيئة تعليمية مليئة بمصادر التعليم والتفكير، ولذلك أنشأت الدولة مراكز لتعليم التفكير، وذلك لأنهم أدركوا أن المواطن هو السبب الأهم في تقدم الدول، فعملوا على استغلال خبرة أصحاب المواهب والكفاءة وتعيينهم وزراء وإداريين ومهنيين حتى حققت هذه السياسة نجاحًا كبيرًا ساعد في استقطاب كبرى الشركات العالمية نظرًا لجودة تعليم وتدريب وانضباط المواطن السنغافوري.
كما عملت الدولة على إدارة نظامها الاقتصادي بجودة وكفاءة لا مثيل لهما، وقامت ببناء اقتصاد معرفي ينافس بقوة الاقتصادات العالمية المعروفة، من خلال رعاية المواهب وتمهيد بيئة صالحة للابتكار والإبداع حتى احتلت سنغافورة المرتبة الأولى في نظام الحوافز الاقتصادية للاقتصاد القائم على المعرفة في مؤشر اقتصاد المعرفة، وقد عززت أيضًا من القيمة المضافة لمنتجاتها من الصناعات الخفيفة مثل النسيج والملابس والمواد البلاستيكية إلى صناعات متطورة كالإلكترونيات، والمواد الكيميائية، والمعدات الهندسية الدقيقة، والاهتمام بعلوم الطب الحيوي، ومضت في استيراد أحدث المعدات التكنولوجية العالمية لزيادة إنتاجية رأس المال والعمالة وعملت على تشجيع الاستثمارات الأجنبية وتحسين الخدمات المصرفية.. ونظرت إلى الإعلام نظرة احترام بأن أعطته الحرية في التعبير عن الرأي بحرية تامة ولم تسكت الأصوات التي كانت تنتقد وتوجه النصائح للقائمين على أمور البلاد.
إذن... التجربة السنغافورية تجربة تستحق الدراسة بعناية شديدة للوقوف على الدروس المستفادة منها وتفعيلها على أرض الواقع إن أردنا رقيًا يضاهي رقي سنغافورة، ويكون التطبيق عن اقتناع ودراسة وتوعية شاملة وتوافر إرادة سياسية وشعبية للنهوض ببلادنا نهضة ترضينا جميعًا ونجني ثمارها كل حين، وذلك مع وجود رؤية واضحة وإدارة واعية ورشيدة لتحقيق الأهداف المنشودة والترويج لهذه الرؤية لإقناع كافة الأطياف الفاعلة في المجتمع لضمان دعمها ومساندتها والعمل على أن يكون التعليم هو المفتاح الحقيقي للنهوض بمستوى النشء والتخلص من الفكر والمنهج التقليدي في الدراسة وتعليم أبنائنا أساسيات التفكير الصحيح وتنمية مهاراتهم وتحفيز طاقاتهم واستغلال مواهبهم أفضل استغلال.. فعلًا لا كلامًا فقط؛ حتى يُـقدَّر لبلادنا أن تكون على مقربة من مصافِّ الدول المتقدمة التي أخذت بالأسباب رغم قلة مواردها وثرواتها، فنحن بحمد الله نمتلك الموارد والثروات والطاقة البشرية الكثيفة، لكن ينقصنا الإرادة الحقيقية في التغيير والإصلاح وأن نحدد خطة نسير عليها وأن نرتب أولوياتنا وأن نُغلب المصلحة العامة على الخاصة، ونعمل على الاستفادة من هذه التجارب الناجحة كي نرتقي ببلادنا ونكون في يومٍ من الأيام مثالًا يحتذى به ويشار إليه بالبنان.
بقلم أ/ أسامة عامر
اشراف ومراجعة د/ محمد سهل
اشراف عام أ/ مصطفى نوفيق